فصل: قال محمد عزت دروزة في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن أبى هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا أقول إلا حقا» قال بعض أصحابه فإنك تداعبنا يا رسول اللّه، قال: «إني لا أقول إلا حقا».
ويرى بعض المفسرين أن قوله: ما ضل صاحبكم- ردّ لقولهم: إنه مجنون، وقوله: وما غوى- ردّ لقولهم إنه شاعر: أي ليس بينه وبين الغواية تعلق وارتباط، وقوله: والشعراء يتبعهم الغاوون، وقوله: وما ينطق عن الهوى- ردّ لقولهم كاهن، وقوله: إن هو إلا وحي يوحى تأكيد لما تقدم، أي فلا هو بقول كاهن، ولا هو بقول شاعر.
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى} أي علّم صاحبكم جبريل عليه السلام وهو شديد القوى العلمية والعملية، فيعلم ويعمل، ولا شك أن مدح المعلّم مدح للمتعلم.
وفى هذا رد عليهم في قولهم: إن هو إلا أساطير الأولين، سمعها وقت سفره إلى الشام.
والخلاصة- إنه لم يعلمه أحد من الناس، بل علمه شديد القوى، والإنسان خلق ضعيفا لم يؤت من العلم إلا قليلا- إلى أنه موثوق بقوله، لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل، وكذلك هو موثوق بحفظه وأمانته، فلا ينسى ولا يحرّف.
(ذُو مِرَّةٍ) أي ذو حصافة في العقل، فالوصف الأول إشارة إلى قوة الفعل، وهذا وصف بقوة النظر وظهور الآثار البديعة منه.
والخلاصة- إنه يجمع بين القوى النظرية والقوى الجسمية كما روى أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحيه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح بثمود فأصبحوا جاثمين.
وإنا لنؤمن بهذا على أنه من عالم الغيب ونكتفي بما جاء في كتابه تعالى ولا نزيد عليه.
وإن علماء الأرواح في أوروبا الآن أصبحوا يؤمنون بقوى عالم الروح وبما لها من خوارق العادات بالنظر إلى عالمنا. قال أوليفر لودج: إني أصبحت موقنا بأنا محوطون بعالم نحن بالنسبة إليه كالنمل بالنسبة لنا، وهم يساعدوننا ويحافظون علينا، ثم قال: وقفت على هذا بطريق علمي (يريد تحضير الأرواح) ثم قال: فإذا ما قال القدّيسون إنهم رأوا الملائكة أو أنهم رأوا اللّه، فكل ذلك حق لا مرية فيه. اهـ.
هذا ولا شك من عجائب القرآن، فإن ما جاء فيه مما يتعلق بعالم الأرواح أصبح علوما تدرس وتذاع بين الناس باعتبارها علوما روحية وكشفا حديثا، صدق ربنا: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.
فالقوى الجسمية والعقلية للعالم الروحي ظهرت بطريق استحضار الأرواح والتنويم المغناطيسي، إذ فيه انخلاع للنفس عن البدن انخلاعا جزئيا أو كليا وهى مربوطة به ولها اتصال بالعوالم الروحية.
{فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى} أي فاستقام جبريل على صورته التي خلقه اللّه عليها حين أحب رسوله صلى الله عليه وسلم أن يراه كذلك، فظهر له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس، فملأه ثم أخذ يدنو من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويتدلى: أي يزيد في القرب والنزول حتى كان منه مقدار قوسين أو أقرب على تقديركم وعلى مقدار فهمكم، فأوحى إلى عبده ورسوله ما شاء أن يوحيه إليه من شئون الدين. ولا غرو فإن ظهور الأرواح في صورة مرئية أصبح الآن معروفا، وقد قص علماء الروح عجائب وغرائب وأصبح في طوقهم أن يظهروا الروح في صور بشرية وصور نورية وتخاطبهم حين التنويم المغناطيسي، وإذا صح ذلك للعلة فليكن ذلك للقدّيسين والأنبياء بالأولى بطريق يشاكل مقامهم، ولا تتجلى الأرواح إلا بالمناسبة بين المتجلّي والمتجلّى عليه، وظهوره في صورة مرئية يرجع إلى قوته وشدته، وقوله: فأوحى إلى عبده ما أوحى، يرجع إلى قوته العلمية.
ولما كان الإنسان كثيرا ما يظن أنه قد تخيل ما رآه ويكذب قلبه ما ظهر له، حتى قال علماء الأرواح: إنهم لما خاطبوا الأرواح قالت لهم، إنكم كثيرا ما يظهر لكم عجائب روحية فتظنونها من الوهم وتنسبونها إلى خداع الحواس- أعقب سبحانه هذا بما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بنفسه أن هذا تخيل ولا أنه وهم فقال:
(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي ما كذب فؤاده ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام: أي إن فؤاده صلى الله عليه وسلم ما قال لما رآه ببصره لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره.
والخلاصة- إنه لما قال: إن هو إلا وحي يوحى أكد هذا المعنى وفصله بقوله: علّمه شديد القوى، ليبين أنه ليس من الشعر ولا من الكهانة في شيء، ولما قال: فاستوى وذكر قيامه بصورته الحقيقية أكد أن مجيئه بصورة دحية الكلبي لا يعمّى وصفه، إذ قد عرفه بشكله الحقيقي من قبل، فلا يشتبه عليه، وقوله: ثم دنا فتدلى تتميم لحديث نزوله عليه السلام وإتيانه بالمنزّل، وقوله: ما كذب الفؤاد ما رأى، بين به أنه لما عرفه وحققه لم يكذّبه فؤاده بعد ذلك في أنه جبريل، ولو تصور بغير تلك الصورة.
(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى؟) أي أفتكذبونه وتجادلونه فيما رآه بعينه من صورة جبريل عليه السلام له.
(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته التي خلقه اللّه عليها عند شجرة النبق التي ينتهي إليها علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا اللّه قاله ابن عباس.
وقد يكون المراد بالمنتهى اللّه عز وجل أي سدرة اللّه الذي إليه المنتهى كما قال سبحانه: {وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى} وعند هذه السدرة الجنة التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة قاله الحسن البصري.
وعلينا أن نؤمن بهذه الشجرة كما وصفها اللّه، ولا نعين مكانها ولا نصفها بأوصاف أكثر مما وصفها به الكتاب الكريم، إلا إذا ورد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ما يبين ذلك ويثبت لدينا بالتواتر، لأن ذلك من علم الغيب الذي لم يؤذن لنا بعلمه.
روى أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم أنها في السماء السابعة، نبتها كقلال هجر، وأوراقها مثل آذان الفيلة، يسير الراكب في ظلها سبعين خريفا لا يقطعها.
والمشاهد في الدنيا أن النبات يعيش إذا وجد التراب والماء والهواء، ولكن لا عجب فاللّه يخلقه في أي مكان شاء، كما أخبر عن شجرة الزقوم أنها تنبت في أصل الجحيم.
وقصارى ما سلف- إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته الحقيقية مرتين: مرة وهو في غار حراء في بدء النبوة، والثانية في ليلة المعراج ولم يكن ذلك في الأرض بل كان عند شجرة نبق عن يمين العرش وهى في منتهى الجنة: أي آخرها، وعلم الملائكة ينتهى إليها.
وقد تقدم أن الصحيح أن الصعود إلى الملإ الأعلى كان روحيا لا جسمانيا كما روى عن جمع من الصحابة رضوان اللّه عليهم.
(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) أي رآه حين غطى السدرة ما غطاها من الخلائق الدالة على عظمة اللّه وجلاله، ومن الإشراق والحسن، ومن الملائكة وقد أبهم ذلك الكتاب الكريم، فعلينا أن نكتفي بهذا الإبهام ولا نزيده إيضاحا بلا دليل قاطع، ولا حجة بينة، ولو علم اللّه الخير لنا في البيان لفعل.
(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) أي ما مال بصر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكّن منها، وما جاوزها إلى رؤية ما لم يؤمر برؤيته.
والخلاصة- إنه رأى رؤية المستيقن المحقق لما رأى.
(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي ولقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه وعجائبه الملكوتية.
روى البخاري وابن جرير وابن المنذر في جماعة آخرين عن ابن مسعود أنه قال في الآية: رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق، وعن ابن زيد أنه رأى جبريل بالصورة التي هو بها.
وعلينا ألا نحصر ما رآه في شيء بعينه بعد أن أبهمه القرآن، إذ هو قد رأى من الآيات الكبرى ما يجل عنه الحصر والاستقصاء. اهـ.

.قال محمد عزت دروزة في الآيات السابقة:

سورة النجم:
تتضمن السورة توكيدا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من رؤيته المشاهد الربانية والملك الرباني وبصدق صلته بالوحي الرباني. وتزييفا لعقائد العرب بالأصنام والملائكة والشفاعة، وتنويها بالمؤمنين الصالحين. وتنديدا بالكفار المكذبين. وإنذارا بالآخرة والوقوف بين يدي اللّه، وتقريرا بعدم انتفاع الإنسان إلّا بسعيه. وتذكيرا ببعض الأقوام السابقة، وما كان من تنكيل اللّه بهم بسبب تكذيبهم أنبياءه وتمردهم على دعوتهم إلى اللّه. وهي متوازنة الآيات مترابطة الفصول، مما يلهم أنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [32] مدنية وانسجامها مع ما قبلها وما بعدها نظما وموضوعا يحمل على التوقف في هذه الرواية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

.[سورة النجم: الآيات 1- 12]:

{وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12)}.
(1) النجم: تعددت الأقوال في النجم المقصود، وأوجهها عندنا هو الشهاب المنقض من السماء بقرينة جملة {إذا هوى}.
(2) هوى: خرّ وسقط.
(3) ضل: انحرف أو ذهل.
(4) صاحبكم: كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) غوى: جهل أو التبس عليه أو ضلّ عن الحق.
(6) الهوى: الرأي الذي لا يستند فيه صاحبه إلى الحق ويصدر فيه عن غاية خاصة وعاطفة وأنانية.
(7) وحي يوحى: الوحي من الإيحاء وأصل معنى الكلمة السرعة والإيعاز والإلهام والقذف بالروع. وجاءت في القرآن بهذه المعاني. وجاءت بمعنى النواميس التي أودعها اللّه في كائناته وخلقه. وجاءت في معرض إرسال اللّه الملائكة بأوامره إلى أنبيائه أو إلهام اللّه لأنبيائه ما يريد إلهامهم به أو قذفه في قلوبهم. والجملة هنا بأحد المعنيين الأخيرين.
(8) علمه: الضمير في هذا الفعل عائد إلى الملك الذي أرسله اللّه للنبي صلى الله عليه وسلم على ما عليه جمهور المفسرين وهو جبريل.
(9) ذو مرة: ذو قوة أو ذو حصافة وإحكام في عقله، وهذا هو المقصود على الأرجح، والكلمة وصف لملك اللّه على ما عليه الجمهور.
(10) استوى: اعتلى أو وقف موقف البروز والعلو. والضمير عائد للملك أيضا.
(11) الأفق الأعلى: كناية عن السماء.
(12) ثم دنا فتدلى: قال الطبري في الجملة تقدم وتأخير ومعناها: تدلى ثم دنا أي نزل من العلو ثم اقترب. ولو لم يصح التقديم والتأخير فنفس المعنى موجود.
(13) قاب قوسين: جملة تعني شدة القرب وقصر المسافة. فكان بين النبي والملك ما بين قوسي الحاجبين من قرب.
(14) فأوحى إلى عبده ما أوحى: عبده هنا كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم والضمير في أوحى عائد إلى الملك جبريل على ما عليه الجمهور.
(15) الفؤاد: كناية عن القوة الواعية المدركة في الإنسان.
(16) تمارونه: تجادلونه.
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال: «سألت زرا عن قوله تعالى: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11)} النجم [9- 11] فقال: أخبرنا عبد اللّه أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح». وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه: «قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)} النجم [8- 9] قالت: ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورته الأصلية فسدّ الأفق».
وأكثر المفسرين يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك اللّه ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي: {إِنَّهُ لَقول رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} التكوير [19- 23]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} النجم [11] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه اللّه بها من دون الناس العاديين على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا حيث استنكرت المرء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء كأنما أرادت الآية أن تقول إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحد مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس، لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين اللّه وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [51] يدركونه ويشعرون به بما اختصهم اللّه به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان باللّه وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.